الوصف
الديار المقدسة قبل قرنين بريشة ريتشارد برتن واخرين – الرَّجل الَّذي يريد أن يتجول: الحج إلى مكة من 3 نيسان 1853 ـ 29 تشرين الأوّل 1854
أعظم اسم غربي ارتبط بحج مكة هو اسم السير ريتشارد برتن. وصلتنا قصة مغامراته منه بالذات في ثلاث. وصلتنا مغامراته منه بالذات في ثلاث مجلدات ذات أحجام غير صغيرة، ومن كتب سير الحياة المتعددة الَّتي كان هو موضوعها. لكن هذه الحكاية تستحق السرد للمرة الثانية. وعندما توضع جنباً إلى جنب مع سير حياة رجال من أعمار وأعراق وظروف مختلفة، فقد يكون لها بعض البريق.
كان عمر برتن اثنين وثلاثين عاماً عندما بدأ رحلته الأُولى والتي كانت في بعض النواحي الأكثر تشويقاً من جميع رحلاته. وكان قد نوى القيام برحلات أوسع في الجزيرة العربية. وبعد أن قام أولاً بزيارة مكة وضمن لقب «حاج»، كان ينوي أن يعبر تلك الصحراء الجنوبية المرعبة في الجزيرة العربية، والتي لم يُعرف أن بدوياً قد عبرها. كان رفضُ شركة الهند الشرقية للإجازة المطلوبة لمدة ثلاث سنوات العائق الأوّل لمشروعه. وأخيراً تخلى عن هذا المشروع عندما وصلته أخبار من مكة أنَّ اضطرابات قبلية جعلت الطريق متعذرة.
ولد في عام 1821، وتعلَّم بطريقة غير منتظمة ومتعددة. كان متجهاً نحو الكنيسة، لكنها كانت بغيضة له كما كانت بالنسبة لزميله في الحج الَّذي ينتقده. وعلى عكس فيناتي لم يكن اختياره للمهنة العسكرية مقرراً بالإكراه. ولكي يحصل على هذه الغاية، أفلح في أن يُطرد من أكسفورد. كانت الحرب الأفغانية قائمة وقتها، وتمّ الحصول له على قبول في الكلية العسكرية في الكتبية (18) من مشاة بومباي الوطنية. وقد تأسف كثيراً لأنه لم يشهد الخدمة الفعلية. كانت محطته الأُولى باروداً، حيث بدأ تعرفه الأوّل على الحياة الشرقية. بعد ذلك انتقلت كتيبته إلى السند، مركز الديانة الإسلامية في الهند، كانت تلك الفترة صانعة لعهد جديد من التغير له، وأثبتت أنَّ لها التأثير الثقافي الأكثر فعالية. لقد اكتسب معرفة دقيقة بالأخلاق الإسلامية، ودرس أولاً مشروع الحج. وبعد سبع سنوات انتهت إقامته في الهند بسبب اعتلال صحته بعد خلافات مع السلطات وخيبة أمله من الخدمة في حرب السيخ. عاد إلى إنكلترا في 1849. كان قد نشر عدة كتب ومقالات في صحف الجمعيات الثقافية وأتقن عدداً من اللغات. وفي بولونيا تدرب على المبارزة بمواظبة كبيرة ووصف نفسه «سيد الجيش». لكن الحضارة سريعاً ما أضجرته وأعادت إلى ذهنه فكرة الحج من جديد.
كرس برتن الكثير من وقته في بولونيا للمبارزة بالسيف، وقد أشاد بذكر مدربه م. كونسنتين بكثير من التقدير والاحترام. أتقن هذا الفن إتقاناً جيداً وتغلّب على جميع خصومة سواء أكانوا إنكليزاً أو فرنسيين، وحصل على (تقدير في المبارزة بالسيف) لتميّز في هذه الرياضة، وأصبح مدرباً فيها. وكخيّال ومبارز بالسيف وبارع في الرماية لم يتفوق عليه أي جندي آخر في أيامه وقليلون هم الَّذين ضاهوه. لكنه سرعان ما شعر بالملل بكل معنى الكلمة من المبارزة والغزل وكتابة الكتب. مثله مثل أسلافه المفترضين ـ الغجر ـ لم يكن باستطاعته أن يبقى سعيداً فترة طويلة في مكان واحد. يقول: «أعتقد أنَّ خصوصية المتجول الممتاز، هي تركيبة ما يدعوه علماء الفراسة حب الوطن والمكان قد تطورت على نحو متساو وكبير». وبعد مسيرة طويلة ومتعبة ـ يتوقف في أقرب مكان للراحة ـ متعباً من الطريق ـ ليصبح أكثر الناس تكريساً للحياة العائلية. وبقي فترة يقبل ذلك الواقع بحماسة لا متناهية، وكان يجد بهجة في عدة فترات من القيلولة أثناء النهار، ويستمتع أيضاً بنوم طويل في الليل. يجد المتعة في تناول العشاء في ساعة ثابتة، ويستغرب إفساد العقل الَّذي لا يستطيع أن يجد وسيلة للإثارة في اللغو والمحادثات القصيرة أو في رواية أو جريدة… لكن سرعان ما تزول النوبة السلبية. ومن جديد تتسلل إليه برحاء السأم قليلاً قليلاً، ويفقد المسافر شهيته، ويذرع غرفته جيئة وذهاباً طوال الليل، ويتثاءب عند المحادثات، ويفعل الكتاب فعل المخدر فيه. يريد الرَّجل أن يتجول ولا بدّ أن يفعل ذلك، أو يموت.