الوصف
المعتزلة والاحكام العقلية والقانون الطبيعي – شغلت مشكلة الخير والشر أو الحسن والقبح، المفكّرين والفلاسفة في أدوار الإنسانية على اختلاف مراحل تطورها، فالإنسان منذ أن أراد تقويم سلوكه والحكم عليه حكماً أخلاقياً، ظهرَتْ إشكالية قلما تجاهلها باحث في العلوم الإنسانية، لعلاقتها بعلوم جمة ولا سيما علمي القانون والأخلاق، فهي التي تحدّد مصدر الإلزام الخلقي من ناحية، وطبيعة القيم الخلقية من ناحية أخرى.
وقد انمازتْ هذه المشكلة عن غيرها من المشاكل الفلسفية بأنها لازمت كفاح الإنسان المستمرّ للوصول إلى مجتمع الفضيلة والعدل، وأسهمت في دفع المجتمع البشري إلى الأمام في محاولة للنهوض بالإنسانية وصولاً إلى المجتمع المنشود، وعكست تاريخاً طويلاً من الصراع بين القوى الحاكمة المستبدة وبين المحكومين الرازخين تحت نير الظلم والاستبداد، فكانت فكرة القانون الطبيعي تعبيراً عن أمل المفكرين بوجود قواعد قانونية، أبدية، خالدة ثابتة، تصحّ في الزمان والمكان، أسبق من القانون الوضعي وأسمى، يمليها العقل السليم ويستقر عليها الضمير الإنساني والحس الاجتماعي، ليست من خلق الإنسان وإنما وليدة قوة مهيمنة غير منظورة، للاهتداء بها وتكون المثل الأعلى لكل تشريع وضعي، يكون أقرب للكمال كلما اقترب من تلك القواعد، لأنها توحي بمقاييس مطلقة للخير والشر والحق والعدل.
وقد تطوّرت فكرة القانون الطبيعي منذ نشأتها وظهور مبادئها عند اليونان، وتبلورها فيما بعد نظرية لها أصولها وقواعدها، وأخذت أشكالاً وصوراً متعددة في العالم الغربي، ولم يحل قدم هذه الفكرة من دون العناية بها والاهتمام الدائم بدراستها، وظلّت في مقدمة الحلول المطروحة لتنظيم العلاقات على صعيد المجتمع الوطني والدولي إلى يومنا هذا.
وعلى الرغم من إجماع العديد من المفكّرين على ضرورة وجود القانون الطبيعي إلا أنهم اختلفوا في تحديد أساسه، فمنهم من أسّسه على العقل المحض والطبيعة، ومنهم من أسسه على الدين وهدي مفاهيمه، ولم تحدد العصور المتعاقبة معالمه ومفهومه على نحو يزيل ما يشوبه من غموض وتناقضات، الأمر الذي أدّى إلى تعرض فكرته للانتقادات الكثيرة، وانحرافها في كثير من الأحيان عن أهدافها السامية التي تسعى اليها، وتحولت إلى سلاح ذي حدّين، فقد لجأ إليها الحاكم المستبدّ لتسويغ سلطته، والرأسمالية لتبرير سياساتها واستغلال الشعوب، وأصبح القانون الطبيعي أداة لتحقيق المصالح السياسية المتناقضة، فانحسر مفهومه في زوايا الدفاع عن الذات، بسبب بروز المدرسة التاريخية وهيمنة الفلسفة الوضعية على عالم الفكر والقانون في العصر الحديث.
وعلى الرغم من ذلك فإنَّ فكرة القانون الطبيعي لم تتلاشَ، فنجدها تجدّد نفسها وتظهر إلى سطح الحياة كلما كانت الظروف مواتية، فهي لا تزال تحظى باهتمام علماء الأخلاق والقانون، بل إنّ العديد من القوانين المدنية تعدّ القانون الطبيعي مصدراً من مصادر القانون لسدّ النقص في التشريعات الوضعية، فمنها ما نص على مصطلحه ومنها ما اكتفى بذكر قواعد العدالة التي هي قوامه.
ولم يكن الفكر الإسلامي بمعزل عن هذه المشكلة، فقد كان لها شأن خاص في دائرة هذا الفكر، اتجهت إليها أذهان العامة وتدارسها الخاصة منذ عهد مبكر، وأضحى لها باباً هاماً من أبواب علم الكلام ولا سيما عند المعتزلة، فقد كانت مشكلة الخير والشر وإيجاد مقاييس موضوعية للأخلاق كامنة ضمنياً في فكرهم تحت أصل العدل وفي مبحث التكليف، وقد استعملوا لفظي التحسين والتقبيح بديلاً عن الخير والشر في وصف الأفعال، فهما أدق في التعبير عن المسألة الأخلاقية بحسب وجهة نظرهم، وخلفوا مادة غزيرة كانت دعامة بحوث الفرق والمدارس الكلامية الأخرى، وانتهت المعتزلة إلى آراء وحلول لا تخلو من جرأة وشجاعة، وأسفرت أبحاثهم وتحليلاتهم عن أفكار لا تخلو من دقة وعمق وجهد صادق في التوفيق بين العقل والنقل، وإزاء هذا البناء العقلي والأخلاقي عَبَرَ المعتزلة وبحثوا في المسلمات التي يأخذ بها علم التشريع وفلسفة القانون، واقتربوا كثيراً من فلاسفة القانون الطبيعي.
ولكن قد تبدو موضوعات الفلسفة الإسلامية ومباحث المتكلمين في معزل عن التيار الفلسفي العام للقانون والأخلاق، ذلك ما أراده لها قسم من الباحثين الغربيين ولا سيما المستشرقين، فإذا ما عرض باحث منهم لمشكلة من مشكلات فلسفة القانون أو الأخلاق، فإنه غالباً ما يبدأ بفلاسفة اليونان ثم ينتقل إلى فلاسفة العصر الحديث مُتجاهلاً المفكرين المسلمين، كأن لم يكن لهم نصيب من الإسهام في تطور الفلسفة الأخلاقية والقانونية، واعتقاداً من الباحث بأن في تراث المعتزلة الفكري ما يساعد على تأصيل النظريات القانونية المتعلقة بأساس القانون ومصدر إلزامه، وإدراكاً منه أن العودة إلى التراث تقتضي أخذ موضوعاته وفهم طروحاته في ضوء الإطار الإنساني العام، لأنّ أي بحث يقوم بعرض تجريدي لقضايا التراث بمعزل عن الحركة الفكرية الإنسانية، ويقطع الصلة بين ما كان في تاريخ أمتنا وبين ما هو كائن اليوم وما ينبغي أن يكون، يُعدّ إضافة لحساب الماضي وتكريساً له، لذا عَقَد العزم على اختيار نظرية الأحكام العقلية عند المعتزلة ومقارنتها بالقانون الطبيعي في الفكر الغربي موضوعاً لهذا الكتاب