الوصف
ذكريات امراة عراقية – لقد كنت دائماً أشعر بالغيظ عندما يقولون إنّ التاريخ يكتبه الأقوياء، أقول بصدق: إنني أكتب الآن عن مرحلة سحقتني، وأنا الآن أكتب وأنا أضعف الضعفاء.
يا للغرور! عفواً، أنا لا أكتب تاريخ أيّ كان، ولكني ألملم بعض الخيوط لأتحدث مع نفسي أمام ذاتي والآخرين، وقد يكون، بل حتماً سيكون هناك وجهات نظر للآخر التي لن يراها أبداً كلانا من الجانبين.
أين هي البداية ؟ أي بداية ؟ وبداية ماذا؟
كم مرة توقفت وأمسكت بهذا الخيط أو ذاك وقلت في غرور هنا : هذه هي البداية.
أبداً لا أعرف تماماً من أين أبدأ، أتردد طويلاً قبل أن أختار، هكذا أنا!.
بالتأكيد هناك بدايات، وسوف يتساءل الآخر الأذكى: أليست هنا كانت البداية؟
إذاً لن أتوقف، وسوف أقبل بكل ما سيُقال عن البدايات، ولكل من يريد؟
لقد غيّرت الأسماء هنا وبدأت باسمي….يا للشجاعة !!
هند…
خيوط واهية أمسكها من زمن بعيد، الزمن الذي تتداخل فيه الرؤى الضبابية كأنها الحلم، بل هي الحلم والرؤيا الواضحة المميزة، وأمي دائماً هناك في ذلك الحلم البعيد، بعد هذه السنين التي زادت على نصف قرن مضى، وأمي جالسة على بساط مغطى بفراش مطرز جميل وسط أخوات ثلاث، أصغرهن تكبرني بأكثر من خمس سنوات.
أمي وحولها جارات وأمامها السماور اللامع وفوقه القوري (إناء الشاي الزجاجي الملون) ورائحة الهيل تتصاعد مع البخار فتعطِّر الجو، والاستكانات الزجاجية المذهّبة مرتّبة في صينية فضية لامعة، وإلى جانب شكردان زجاجي مليء بقطع سكر بيضاء مكعبة لا توجد عند الجيران الذين يشربون الشاي مع سكر التموين الأسمر.
أحدّق في وجه أمي وهي تتحدث عن أبي البنات، غير منتبهة لوجود هذه الصغيرة المشاكسة التي تدفعها بقوة كلما مدّت يدها إلى قطعة السكر اللذيذ، وتعود بعدها للاهتمام بالأخرى الأصغر التي في أحضانها، وحديث أمي دائماً عن حياتها، وكيف بدأتها يتيمة في بيت خالتها، جدتي لأبي، وكيف زوّجوها له ليعفى من الخدمة العسكرية فلا يدفع البدل النقدي، إلاّ أنه أحبّ الجيش وتقدّم في عمله لإخلاصه ومعرفة بسيطة في القراءة والحساب لا تتعدى المدرسة الابتدائية.