الوصف
نشوء اللغة وونموها واكتهالها – يقول الأب أنستاس ماري الكرملي:
عقدتُ هذا الكتاب على تسعةٍ وثلاثين فصلاً، وختمتُهُ بموجَزٍ، هو بمنزلة خلاصةٍ لهُ. وقد توخَّيْتُ أَلَّا تكون هذهِ الفصول متناسقة في الطول، ولا في القِصَر، ليشعُرَ القارئُ بأنَّ ما كان منها قصيراً، يجد مثل موضوعهِ شيئاً كُثَاراً في تصانيف النحاة، واللغويين الأقدمين على اختلاف عصورهم وطبقاتهم. وأما الفُصول الطوال، فهي من وضعي، فلا يُصيب القارئُ ما يُضَارعها في أسفار القابضين على اليراع؛ فأشبعتُ البحث قولاً، وإن لم أقل كل ما كنتُ أوَدُّ أن أقولهُ؛ لأنَّ ما تعرضتُ لهُ، لم يذكرهُ غيري، أو ربما يستغربهُ المطالع أو يُنكرهُ عليَّ.
وقد تعودتُ سماع النقد، بل أقذع النقد وأقبحهُ حتّى مَرَدتُ عليه. فإن كان القائل مصيباً في قولهِ، أو في بعض قولهِ، أجبتهُ، وإلَّا نبذتهُ نبذ النواة، تاركاً لهُ الدهر لِيُؤَدِّبَهُ، فهو أحسن مؤدّب، لمن يأكل قلبهُ الحسد، أو الحقد، أو الضغينة، أو ما تريد أن تسمِّيَهُ. وكفى.
هذا بحث لُغَويّ، جَرَيْتُ فيه على الأُسْلُوب الحديث، تمحيصاً للحقيقة، ودفاعاً عن اللغة المُضَرِيَّة، وإيضاحاً لما فيها من دقائق الأوضاع، وخفايا الأسرار، وغوامض الحروف، وخصائصها، وبدائع الصيغ وأوزانها، وما فيها من مختلفات لُغَة القبائل، متوقعاً البلوغ به إلى الحقّ، غير مبتغٍ أجراً ولا شكوراً؛ إنما كل أُمْنِيَّتي خدمة العربية، وحَمْل أبنائها على السير في مثل هذا النهج، ليعلم غيرهم أن لسان العرب فوق كل لسان؛ ولا تُدانيها ألسنٌ أخرى من ألسنة العالم جمالاً، ولا تركيباً، ولا أصولاً، ولا… ولا… ولا…
كان يتردَّد إِليَّ في بغداد، في سنة 1935، في أوقاتٍ معينة، وفي مكان عزلة، أحد شبان الهنود النصارى، من خِرِّيجي كُليّةِ اليسوعيين في كَلكَتَّة، من ديار الهند، وكان مِمن أولعوا بدرس اللغات من حَيّةٍ وميتة، ومقابلتها أو معارضتها بعضها ببعضٍ، وكان يباهي كل المباهاة بالهندية الفصحى (بالسنسكريتية)، لأنها أم اللغات الغربية الآرية كلها قاطبة، ولاسيما أم اللغتين: اليونانية واللاتينية.
وكان قد اطلع في المقتطف، والهلال، ولغة العرب، وغيرهن من المجلات والصحف على ما كنت كتبتهُ في هذا المعنى، أي «إن اللغة العربية أم اللغات» أو «مفتاح اللغات»، فكان يضحك بملءْ شدقيهِ من هذا الرأي، ويعدهُ في منتهى السخافة، ويسخر مني، لأني أنا أول القائلين بهِ. ويرى أن هذا الرأي، رأي شرقيٍّ غيرَ ناضجٍ، وهو لا يجد فيهِ سوى المبالغة والإغراق في الوصف، والتعظيم للغة الضاد ليس إلَّا.
وكان مع ذلك متأثراً من قولي، لأنهُ فعل في فكرهِ فعل الصاعقة في جسمهِ، وإن كان يُرِي أنهُ يستخفّ بهذهِ الفِكْرَة. فكان قد جاءَ إلى بغداد في السنة التي أَشرت إليها، لأشغالٍ تتعلق بشؤون والدهِ، ثم بحث عني حتى وجدني، وزارني مراراً لا تُحصى وحاول أن يقنعني أن أعدل عن فكري إلى رأيه، فالفاني كالجلمود، أو أصلب في وجهه، وكان يقول لي، ويعيد قولهُ مراراً: إن رأيك فائل، أيها الأب المحترم، لا يرضى بهِ كل لغويّ، وأرجو منك أن تعدل عنهُ احتراماً لشخصك، ولا جرم أنهُ لا يُعَمَّر، لضعفهِ، وسقمهِ وعدم قبول العلماءِ لهُ، وقد رذلهُ جماعة المستشرقين الذين قتلوا هذا الموضوع خَبَرَاً وخُبْراً ولا سبيل إلى هدمهِ، بل لا مطمع في الزيادة عليهِ قيد شعرة. – إلى كلام طويل مُمِلّ لا محل لإيرادهِ هنا، لأن الشاب كان مفتوناً بمذاهب أهل الغرب وباحثيهم، كسائر أبناءِ الشرق، حين يتصلون لأول مرة بأناس غير أناس وطنهم، وبأفكار غير أفكار قومهم. لا بل ما كان يريد أن يسمع برأي جديد لم يذهب إليهِ الإفرنج، أو لم يقل بهِ الإفرنج، أو لم ينص عليهِ الإفرنج، أو لم يمرّ بخاطر الإفرنج، فهو من عَبَدة الإفرنج لا غير، أصابوا أم أخطؤوا، ولا يريد أن يحاكمهم بأي شيء كان. وكان يقول: ليس أدنى صلة بين اللغة الضادية وأي لغة يافثية قديمة أم حديثة، كالهندية الفُصحى، واليونانية، واللاتينية، والفارسية القديمة، كالفهلوية، والزندية، والدَّرِيَّة.
فقلتُ لهُ: يا سيدي، إن الحقيقة ابنة البحث. فإن أنت اختلفتَ إِليَّ مراراً عدة، فإنك تعدل عن رأيك هذا إلى رأيي، وعن تصلبك في مخالفتك إياي، وتنقلب آخذاً بفكري، من غير أن أمنعك من أن تشايع المستشرقين في بعض آرائهم الصائبة، والتي أنا أوافق عليها أيضاً.
فكان يأتيني في مكان ناءٍ عن كل زائرٍ، لا يدري بهِ أحد. وكنا قد اتفقنا على الاجتماع فيهِ أياماً وساعاتٍ معلوماتٍ. فكنا نتجاذب أطراف الجدل في جوٍّ يسود فيهِ الهدوءُ، والطُّمَأنينة، وحُرِّيَّة الفكر، والقول، وليس ثَمَّ من يُزْعِجنا، أو ما يُزْعِجنا.